فلسفة · تاريخ · طبيعية · علوم

المعلم الثاني: الفارابي al-Farabi.

عام 260 هـ/874 م في قرية  وسيج بإقليم فاراب فيما وراء نهري سيحون وجيحون -بجمهورية باكستان الآن- ولد محمد بن محمد بن طرخان، وكان فارسي الأصل، وتركي الموطن، عربي الثقافة والدين مُنذ دخل أبوه في الإسلام ونزح بإهله إلى فاراب.

وفي مسجد القرية ومساجد الأقليم حفظ محمد القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث والتفسير وأتقن اللغتين الفارسية والتركية وألم بالعربية.

وكان محمد زكي النفس هاديء الطبع ليس له من أمور الدنيا والجسد، فروحه تُحلق حيث يُحلق عقله ويتسامى عقله إلى حيث يسمو روحه، يؤثر الوحدة والتأمل في أمور الدنيا والدين وحياة الناس حكاماً ومحكومين.

وكثيراً ماكان يخرج محمد من عزلته ليمارس مع إخوانه الزراعة في مزرعة أبيه، وهو قائد صغير من قواد الجيوش السامانية، يحرث ويسقي ويرعى الزرع ويحرس بستان الفاكهة في مواسم الإثمار، ويبدو أن العمل الأخير قد إستهواه فمارسه طوال حياته.

لما بلغ محمد الثلاثين من عمره أراد والده أن يستلّه من وحدته فحدثه في أمر الزواج، ولكن رده كان قاطعاً: نذرت -يا أبت- نفسي لحياة العلم والعلماء، وإني لأوثر أن تكون حالي على ماهي عليه الآن، أقرأ في كتب الأولين والمعاصرين وفي كتاب الطبيعة المفتوح.

وفي فاراب كان يعيش عالم مجهول لديه كُتب شتى في المنطق والفلسفة والموسيقى والرياضيات، ولما أراد هذا العالم السفر خشي على مكتبته من الضياع فحملها إلى العالم الشاب، وفرح محمد بكتب العالم المسافر وعكف عليها بفرح ونهم يعلم نفسه بنفسه، وكانت الكتب مؤلفة بأقلام علماء مسلمين من جنسيات مختلفة كما كان بعضها مترجماً عن اليونانية خاصة ومن ثم لم تخل من كتب لأرسطو وأفلاطون.

قرأ العالم الصغير محمد كتاب “النفس” لأرسطو مائة مرة!، وقرأ كتاب “السماع الطبيعي” لأرسطو أيضاً أربعين مرة!

وكان يبذل جهداً مضنياً في تحصيل العلم والغوص في أعماقه والتنقيب في أسراره ومكنوناته بدأب ظاهر وصبر عجيب.

وبين كافة الناس، العاديين منهم والعلماء، إشتهر العالم الصغير محمد في إقليم فاراب بلقب “الفارابي”:”محمد بن محمد طرخان الفارابي” زهواً به وإعلاء لشأنه.

كان الفارابي يرى أن المدن البشرية نوعان: مدنٌ  فاضلة، وأخرى غير فاضلة.

والمدن الفاضلة غايتها تحقيق السعادة، أسمى أماني الإنسان، ولاتكون السعادة إلا بممارسة الأعمال المحمودة، وبالممارسة تتولد السعادة.

والمدن غير الفاضلة تتمثل في مدن جاهلة، لايعرف أهلها السعادة، فغايتهم إشباع نزواتهم، وأولو أمرهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر.

وفي هذا كُله كتب الفارابي في بغداد كتابيه: “التنبيه على سبيل السعادة”، و”آراء أهل المدينة الفاضلة”.

في دمشق طاف الفارابي مع الأمير سيف الدولة الحمداني بأرجاء غوطتها التي تحيط بها من الجنوب كهلال أخضر، وجلسا معاً، وفجأة أحس عالمنا بهبوط القوى، فدعى الأمير طبيبه المرافق على عجل، لكن الطبيب إذ بلغ الفارابي الممد على حشيش أخضر وجد روحه  قد فاضت إلى بارئها عن عمرٍ قارب الثمانين في عام  339 هـ/950 م.

لُقب بالمعلم الثاني، فيما كان الأول هو أرسطو، المعلم الأول للإنسانية والثالث ابن سينا.

مقتطفات من كتاب معلمو الإنسانية لـ أ.د. صبري الدمرداش.

“الكتاب متوفر في مكتبة جرير لمن أراد الإستزادة حول الفارابي”

أضف تعليق